كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقد عرّفتك في هذه الخاتمة أشرف أسرار البسملة من حيث أصل الأسماء، ثم عرّفتك سرّ الحمد للّه وتصدير الكلام العزيز بها.
وأمّا سرّ إضافة الحمد إلى اللّه فهو من حيث إنّه أوّل التعيّنات المرتبيّة الجامعة، وقد نبّهت عليه منذ قريب.
وسرّ إضافة الربوبيّة إلى الاسم اللّه هو تأنيس المخاطبين لما تعطيه حضرة الألوهيّة من الأحكام المتضادّة الظاهرة والمغيبة، وما يلازمها من فرط جلال الهيبة والعظمة بخلاف الربوبيّة المستلزمة للشفقة، وحسن الاشتمال على المربوبين بالتغذية، والتربية و، الإصلاح ونحو ذلك.
وسرّ الشمول بالإضافة هو لفتح باب مطامع الكلّ فيه إذا أطاعوا، وليرهبوا أيضا بأجمعهم إذا أفرطوا أو قصّروا، للمعنى المدرج في {مالك يوم الدين} وهو المجازاة.
وسرّ إيّاك كما مر، هو: أنّ المتعيّن من علمك فيك أوّلا هو في ثاني حال هدف أسهم إشاراتك، ومقصد تتعيّن عنده مراداتك، وتستجلي فيه شؤونك كلّها، وتفاصيل أحكام إرادتك، فظهر الفرع بصورة الأصل، وهذا أمر إن عرفته عرفت الكلّ.
وسرّ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ هو عطف على الإشارة المتقدّمة بوجه يخالف الوجه الأوّل، كما مرّ بيانه، وتصريح بما أجمل في باء البسملة من حكم الفقر، وعدم الاستقلال، والإقرار بالانقياد، والتوجّه إليه، والتعويل في المهامّ عليه. واهْدِنَا إلى آخر السورة هو طلب أدرج فيه سرّ المحاكاة من الفرع للأصل، وسيّما في المقصود الأوّل من الإيجاد، الذي حاصله التعريف والتمييز المشار إليه: بأحببت أن أعرف، فافهم فإنّه لو لا الإيجاد، لم يظهر تمييز مرتبة الحدوث من القدم، ولا مرتبة الوحدة- من حيث اشتمالها على الأحكام المتعدّدة الكثيرة- من الوحدة الصرفة التي لا حكم يقيّدها، ولا وصف يعيّنها، ولا لسان يوضّحها ويبيّنها، وقد مرّ بيان ذلك في صدر الكتاب.
وأمّا سرّ المغضوبيّة فهو نفس الانحرافات الظاهرة الصوريّة، والباطنة الروحانيّة والمعنويّة، المتعيّنة بين بداية أمر الوجود وغايته بسبب تداخل الأحكام والأحوال المضافة إلى الأسماء والأعيان، وغلبة بعض تلك الأحكام للبعض غلبة تخرج جمعيّتها عن نقطة الاعتدال الخصيص بتلك الجمعيّة أيّ جمعيّة كانت، فافهم.
وقد عرفت سرّ البدايات والغايات، وأنّ الحقّ هو الأوّل والاخر، وأنّ شؤونه هي المتعيّنة في البين فلا تنس.
ولمّا كانت الفاتحة أمّ الكتاب- أي أصله- وقد عرّفتك في أوّل الكتاب مرتبتها، وأنّها الأنموذج الشريف الأخير، وكان غيب الذات من حيث اللاتعيّن- حال لا حكم ولا صفة ولا اسم- متقدّما على جميع التعيّنات الظاهرة والباطنة، العلميّة والوجوديّة، وكان مصير الأمور كلّها ومنتهاها إلى ما تعيّنت منه أوّلا، والحقّ هو الأوّل، اقتضى الأمر السرّ العدلي الكمالي العيني. ختم الفاتحة بلفظ يدلّ على الحيرة التي كان آخر مراتبها من حيث حال المتّصفين بها متّصلا بغيب الذات، ولهذا كان منتهى الأكابر فإنّ حيرتهم في اللّه هي في أعلى خصوصيّات ذاته من ذاته، بعد تعدّي سائر مراتب أسمائه وصفاته.
وكما كان أوّل الحضرات الوجوديّة المتعيّنة من غيب الذات هي حضرة التهيّم، وفيه تعيّن المهيّمون المستغرقون بما هم فيه عن الشعور بأنفسهم، وبمن هيّمهم شهوده وفرط قربه، وبالسوى كان الآخر نظير الأوّل، كما بيّنّا، فإنّ الخاتمة عين السابقة، فختم سبحانه أحوال الصفوة من عباده بما بدأ به، وإن كان بين أهل الحيرة الأخيرة هنا وبين من هناك فرقان عزيز لا يعرفه إلّا النّدر من الأكابر وقد نبّهتك عليه تعريضا وتمثيلا فتذكّر.
وكذلك ختم سبحانه شؤونه مع خلقه من الوجه الكلّي بالحال الذي بدأهم بحكمه وهو الرضا فإنّه لمّا كانت الرحمة نفس الوجود- كما بيّنّا-، كان وصفه الذاتي هو الرضا، ولهذا قابله الغضب، ووقعت بينهما المجاراة الشريفة التي ذكرها سبحانه، ثم سبقت الرحمة الغضب، وغلبته بالرضا الذي هو وصفها الذاتي لأنّه سبحانه لو لم يرض لنفسه من نفسه الإيجاد، ولأعيان الممكنات الاتّصاف بالوجود الذي سمح به ورضيه لهم، ما وجد ما وجد. وكون الرضا له مراتب كثيرة لا ينافي ما ذكرنا، فصورة الرضا العامّة نفس الإيجاد وبذل الوجود لكلّ موجود، ثم تعيّنت خصوصيّاته بحسب أحكامه، وعددها مائة عدد، عدد الرحمات، فافهم.
فلا جرم كان آخر أحكامه الكلّيّة في السعداء من خلقه- كما أخبر- رضاه عنهم، فلا يسخط عليهم أبدا، فختم تعريفه لهم من الوجه الكلّي بما تعيّن لهم منه آخرا، وهو المتعيّن أوّلا، والسلام.
وختم آخر أحوالهم- من حيث هم- بالدعاء الذي هو السؤال، وهو كان أوّل أحوالهم لأنّ أوّل أمر انصبغوا به حكم سؤال الحقّ نفسه بنفسه، وتعلّق طلبه بكمالي الظهور والإظهار، فسرى حكم ذلك السؤال في حقائقهم لكونهم إذ ذاك في عين القرب الذي هو عبارة من ارتسامهم في نفسه سبحانه، فسألوا الإيجاد بألسنة الاستعدادات من حيث حقائقهم، فكانت إجابة الحقّ لهم إيجادهم، كما نبّهتك عليه في صدر الكتاب عند الكلام على سرّ البدء، فختمت أحوالهم آخرا بالسؤال، وكان ذلك بصيغة {الحمد لله رب العالمين}، كما أخبر سبحانه بقوله: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ {الحمد لله رب العالمين} لأنّ المقصود من السؤال الأوّل المذكور إنّما ظهر كماله حينئذ، لا جرم تعيّن الحمد، كالآكل والشارب ونحوهما إنّما شرع له التحميد إذا قضى وطره ممّا يباشره، فافهم.
وختم سبحانه القرآن- العزيز المنزل- بآية الميراث لأنّ آخر الأسماء حكما- وخصوصا في الدنيا- الاسم الوارث إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ.
وسأمثّل لك في سرّ الميراث مثالا إن أمعنت النظر فيه أشرفت على علم كبير عزيز جدّا، وذلك أنّ أشعّة الشمس وكلّ صورة نيّرة لا تنبسط إلّا إذا قابلها جسم كثيف، وفي التحقيق الأوضح لو لم يكن ثمّة جسم كثيف لم يظهر للشمس نور منبسط، فالشعاع تعيّن بين الشمس وبين الصورة الكثيفة، فكلّما كثرت ظهر انتشار الشعاع وانبسط، وكلّما قلّت تقلّص ذلك الشعاع في الأمر الذي انتشر منه، فتقلّصه بالوصف المتحصّل له من كلّ ما انبسط عليه هو عودة الورث، نوره المنبسط عنه أوّلا متزايد الحسن مما استفاده من كلّ ما اقترن به، فانطبع فيه، كما مرّ في ماء الورد، وذهب ما لم يكن ثابتا لذاته، ولا مرادا لعينه، بل كان ثباته بالنور المنبسط عليه، والأمر الساري فيه الثابت آخرا كُلُّ شَيْءٍ هالِك إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
وقد عرّفتك في صدر الكتاب: أنّ الكمال الذاتي وإن لم يزل فأكمليّته إنّما ظهرت بالكمال الأسمائي، والأسماء إنّما تعيّنت بالأعيان علما ووجودا، فلو لا الأعيان لم يكن الكمال الأسمائي المرتبي، كما أنّه لو لا الحقّ، لم يحصل للأعيان الكمال الوجودي، فكلّ وارث، وهذان الحالان هما الموروثان آخرا، والمتماثلان أوّلا وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ.
والأمر في أحد الجانبين قد استبان بما ذكرنا، وفي الجانب الآخر عبارة عن الشأن الذي أعقبه الاستخلاف بعد كمال الحضور والمباشرة للتصرّف والإيجاد والاستخلاف، فمع البطون لا محالة، ومدار الورث وما ذكرنا على البطون والظهور، والغيبة الأخيرة التي هي من لوازم الأكمليّة بالاستهلاك الأتمّ في الحقّ تقضي باستخلاف الخليفة ربّه المستخلف له، وتوكيله التوكيل الأتمّ، وقد مرّ حديثهما من قبل، فتذكّر.
وأمّا حكم ما عدا الكمّل من الخلفاء في الورث فبمقدار حظّهم في الخلافة، وبحسب نسبتهم إليها وكلّ ذو حظّ منها ونصيب وإن قلّ، فاستحضر ما أسلفت في ذلك، وافهم، ومن الغرائب أن تفهم ما نريد، والسلام.
واعلم، أنّ البحر يرث الأنهار، والأرض ترث ما انفصل منها بوجه، وكذا الهواء والنار مع الأوليين يرثون ما تولّد عنهم، والعلويات ترث القوى المنبثّة منها في القوابل، وورث كلّ وارث، فبحسب أصالته وكلّيّته بالنسبة إلى ما تفرّع منه، واللّه- من حيث إنّه الجامع والأصل- خير الوارثين بالنسبة إلى المواريث والإرث الأسمائي، فتنبّه.
ثم نقول: إنّ اللّه ختم العبادة الصفاتيّة بالسجود الواقع في الحشر من النبي صلّى اللّه عليه وآله حال فتح باب الشفاعة، وممّن شاء من الشفعاء، والذين يؤذن لهم في السجود، كما ثبت في الشريعة، وليس بعد تلك السجدة إلّا العبادة الذاتيّة التي لا يقترن معها أمر ولا تكليف.
وختم إتيانه بصفة ظاهريّته من حضرة غيبه الذاتي، وتوجّهه إلى كافّة خلقه بإتيانه في ظلل من الغمام يوم القيامة للفصل والقضاء، فإنّه كإتيانه الأوّل من غيب هويّته في العماء للظهور والإظهار، وفصل الأعيان القابلة للوجود بالرحمة الشاملة من الأعيان الباقية في حضرة الثبوت، والحكم على كلّ منها بما يستحقّه لذاتها بموجب استعداداتها وعلمه بها كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا فافهم، فقد كشف لك ما لا ينكشف إلّا للنّدر.
وختم القرآن العزيز من حيث الإنزال بسورة براءة المميّزة بين المقبولين والمردودين لأنّ آخر حكم يتنزّل هو التمييز، ولهذا كان يوم القيامة يوم الفصل، فيميّز اللّه فيه الخبيث من الطيّب، ويجعل الخبيث بعضه على بعض، فيركمه جميعا، فيجعله في جهنّم أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وختم أحكام الشرائع بشريعتنا كما ختم الأنبياء بنبيّنا صلّى اللّه عليه وآله.
وختم حكم شريعتنا بطلوع الشمس من مغربها، نظير طلوع الروح الحيواني وتقلّص نور الروح الإلهي من مغرب البدن، فإنّ نسبة الشمس إلى الصورة العاميّة الكونيّة نسبة الروح الحيواني إلى أبداننا، ونسبة القلم الأعلى من حيث الإنسان الكامل نسبة الروح الإلهي المدبّر لنشأتنا، فكما أنّه لا اعتبار لإيمان أحد بعد طلوع الشمس من مغربها، ولا لعلمه، كما قال سبحانه: لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْرًا وفسّر ذلك نبيّه صلّى اللّه عليه وآله بهذا، كذلك لا اعتبار لعمل حال إعراض روح الإنسان عن تدبير بدنه، ومفارقة روحه الحيواني، كما قال صلّى اللّه عليه وآله: «إنّ الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر»، فافهم.
وختم الخلافة الظاهرة في هذه الأمّة عن النبي صلّى اللّه عليه وآله بالمهديّ عليه السّلام.
وختم مطلق الخلافة عن الله تعالى بعيسى بن مريم على نبيّنا وعليه السلام.
وختم الولاية المحمديّة بمن تحقّق بالبرزخيّة الثابتة بين الذات والألوهيّة لأنّ ختميّة النبوّة تختصّ بحضرة الألوهيّة، ولها السيادة في عين العبوديّة، ولختميّة الولاية العامّة سرّ باطن ربوبيّة العالمين بالملك والتربية والإصلاع وغير ذلك، ونسبته إلى الصورة الوجوديّة نسبة النفس، فافهم. فكلّ ممّن ذكرنا- صورة مرتبة الإلهيّة من أمّهات المراتب.
وختم الكمّل من عبيد الاختصاص الوارثين بعبد له جمع الجمع، لا جامع بعده مثله ولا حائز لكلّ المواريث غيره، وله كمال الآخريّة المستوعبة كلّ حكم دون سواه، فلهذا لا يعرفه غير مولاه.
وختم التجلّيات- الحاصلة للسائرين- بالتجلّي الذاتي الذي انختم بظهوره أيضا سير السائرين إلى الله.
وختم الحجّ- الذي هو نظيره- بالطواف حول المقام الذي كان وجهة السائرين.
ولكلّ مقام من المقامات الكلّيّة ختم يخصّه الله، وسرّ يكمّله به ويبديه وينصّه، ولو لا التطويل، لعيّنت لك أمّهات المقامات، وبمن ختمت أو تختم، ولكن قد أوردت أنموذجا من ذلك للتنبيه والتذكير وفيه غنية للألبّاء من أكابر المشاركين وما شاء الله كتمه، فلا حيلة في إظهاره وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ.
وصل في وصل يتضمّن نبذا من الأسرار الشرعيّة الأصليّة والقرآنيّة:
اعلم، أنّ خطاب الحقّ عباده بألسنة الشرائع- وسيّما الخطاب المختصّ بشريعتنا- ينقسم بنحو من القسمة إلى سبعة أقسام كلّيّة تحت كلّ قسم منها أقسام.
فالقسم الأوّل من السبعة يتضمّن الإنباء عن الحقائق، ويبيّن المضارّ الجليّة والخفيّة والمنافع، وينقسم إلى قسمين: قسم تستقلّ العقول بإدراكه ابتداء، أو بعد تنبيه وتذكير، وقسم لا تستقلّ العقول بإدراكه، بل تفتقر في إدراكه إلى نور إلهي كاشف.
والمراد من ذكر ما هذا شأنه تنبيه النفوس المستعدّة وإمداد الهمم للتشوّق إلى نيله، والسعي في تحصيله، كيلا تقنع بالحاصل لها في أوّل وهلة، فتظنّه الغاية، وأن ليس وراءه أمر آخر، فتفتر وتتقاعد عن طلب المزيد.
وربما وقع الإخبار عن بعض ما يتضمّنه هذا القسم بألفاظ توهم بعدا وعظمة مفرطة، مع أنّ المخبر عنه قد يكون مشهودا حاضرا ولا يشعر به، ولا يعرف أنّه المسمّى بذلك الاسم، أو الموصوف بتلك العظمة.
والسرّ فيه إبقاء حرمة الأسرار لتوفّر الرغبات إلى التحقّق بمعرفتها، ولا تفتر عن الجدّ في الطلب الذي ربما أفاد بعون اللّه الاطّلاع عليها وعلى غيرها، بل على الأصل الذي قرنت السعادة بمعرفته.